in

علي العطيفي – عملاء الموساد

لم يكن هذا الجاسوس علي العطيفي يجلس علي المقاهي و النوادي ليقوم بتجميع الأخبار وإرسالها لمن يعمل لحسابهم، و لم يكن يتلصص على المنشآت العسكرية و الاقتصادية ليرسل عنها تقارير، بل اخترق أعلى مؤسسة سيادية في البلاد، لقد قام بأختراق القصر الجمهوري و كان مصدره رئيس الجمهورية شخصيا، إنه الجاسوس الشهير علي العطيفي الذي كان المدلّك الخاص للرئيس المصري الراحل أنور السادات، وظل على مدى ٧ سنوات داخل القصر الجمهوري يعمل لحساب الموساد الإسرائيلي من دون أن يكتشفه أحد، ومن هنا كانت قصته ذات التفاصيل المثيرة.

في بداية الثمانينات من القرن الماضي ظهر في مصر كتاب يحمل اسم “علي العطيفي” ، وكانت تلك أول مرة يخرج فيها اسم العطيفي الى الرأي العام، فأثار ضجة كبيرة في مصر والدول العربية.

كتاب عن الجاسوس الأشهر علي العطيفي

جاء في الكتاب المنسوب إليه أنه هو الذي قتل الرئيس جمال عبدالناصر، على أساس أنه كان مدلكه الخاص، و تسبب في موته عن طريق تدليكه بكريم مسمّم، تغلغل في جسده ببطء ثم قتله، و ذلك معناه أن المخابرات الإسرائيلية اخترقت منزل عبدالناصر و فراشه، و تسببت الإشاعة في حدوث بلبلة في مصر، زاد حدتها ما قاله الزعيم الصيني “شوان لاي ” لأول وفد مصري زار الصين بعد وفاة عبدالناصر، و كان الوفد برئاسة السيد حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية في ذاك الحين، و قد قال الشافعي، في مذكراته التي نشرها قبل ٢٠ عاماً، إن لاي قال لهم “لقد كان عندكم رجل ثروة لكنكم فرطتم فيه”، وفهم أعضاء الوفد المصري أنه كان يقصد ترك أمر علاج عبدالناصر للسوفيت، فقد بقي لفترة يتلقى العلاج الطبيعي في مصحة تسخالطوبو السوفيتية عام يدلكونه بها و وقتها، وبعد ظهور الكتاب تذكر الجميع تلك الواقعة ، وأنه من الممكن أن يكون السوفيت دسوا له نوعا من السموم في المراهم التي كانوا يستخدموها و أيقن الكل بأن عبدالناصر مات مقتولاً ، لكن ليس بأيدي السوفيت بل بيد الموساد الإسرائيلي عن طريق عميلهم علي العطيفي و راحت الصحف وقتها تفيض في نشر كل ما يتعلق بالموضوع،
ظلت الإشاعة قائمة يصدّقها البعض و يكذّبها البعض الآخر، حتى تولى السيد سامي شرف مدير مكتب عبدالناصر و وزير شؤون رئاسة الجمهورية، الرد عليها، ونشر على لسانه في عدد جريدة الوفد رقم ١٠٨٥ الصادر في ٩ ديسمبر ٢٠٠٤.

أن العطيفي لم يتعامل مع عبدالناصر بأي شكل سواء مباشر أو غير مباشر، و تحدى شرف أن يكون اسم العطيفي مدرجا في سجلات الزيارة الخاصة بالرئيس و المحفوظة برئاسة الجمهورية، ثم تصدت أقلام أخرى موضحه ما جاء في الكتاب المجهول الذي نشر منسوبًا الى العطيفي و هو في السجن، و اتضح أن الاخير جنِّد في الموساد بعد موت عبدالناصر، كذلك خلت أوراق القضية التي تحمل رقم 4 لسنة ١٩٧٩ تماما من ذكر أي علاقة له بالرئيس عبدالناصر.

كان سبب انتشار الإشاعة أن العطيفي حين اكتشف أمره أحيل الى المحاكمة في تكتم شديد، فقد أصدر السادات تعليمات مشددة للإعلام بالتكتم على الخبر الفضيحة، فماذا يقول الشعب حينما يرى أن “الموساد” اخترق منزل رئيس الجمهورية؟!! آثر السادات أن يتجرع مرارة الضربة بمفرده، و من هنا كثرت الإشاعات والأقاويل حول حقيقة العطيفي و دوره بعد انكشاف أمره بعد وفاة الرئيس السادات.

تقول بيانات الجاسوس إن اسمه علي خليل العطيفي من مواليد حي السيدة زينب في القاهرة عام ١٩٢٢، لم يحصل سوى على الشهادة الإعدادية فحسب، و بعدها عمل كصبي بقال، ثم عامل في أحد الأفران ثم عامل في إحدى الصيدليّات ثم انتهى به المطاف للعمل في مهنة مدلّك،
و كانت مهنة غير منتشرة في ذلك الوقت و لا يهتم بها سوى الطبقة الأرستقراطية.

عمل العطيفي كمساعد لأحد المدلكين الأجانب و بعد قيام الثورة رحلت غالبية الأجانب من مصر و خلت الساحة له فكثر الطلب عليه و ازدحمت أجندة مواعيده و راح يتنقل من قصر فلان إلى فيلا فلان، وكثر اختلاطه بعلية القوم وأعطى لنفسه لقب “خبير” علاج طبيعي،
كان هذا المصطلح حديث عهد في مصر، فلما ظهرت الحاجة لوجود العلاج الطبيعي في مصر ونشره كعلم و مهنة و جد لنفسه مكاناً بين رواده و انضم الى قائمة مدربي العلاج الطبيعي في معاهد التربية الرياضية في مصر، و بدأت الدولة ترسل خريجي تلك المعاهد في بعثات تدريبية الى أوروبا و الولايات المتحدة و الاتحاد السوفيتي فعاد هؤلاء إلى مصر وهم يحملون درجات الدكتوراه.

عام ١٩٦٣ وجد العطفي اسمه في كشوف من تمت الموافقة على سفرهم الى الولايات المتحدة الأميركية فوجد أن أمامه فرصة ذهبية للوصول الى أعلى المناصب لو حصل على الدكتوراه لكن كيف و هو لا يملك سوى الشهادة الإعدادية بحسب اعترافاته في ما بعد أنه استطاع الحصول عليها من رجال الموساد في سفارة إسرائيل في أمستردام حيث عاش فترة في هولندا وتزوج منها و حصل على الجنسية الهولندية و أصبح هناك مبرر لسفرياته الكثيرة و التي كانت تتم كغطاء لنشاطه التجسسي، وبعد ذلك و بموجب شهادة الدكتوراه المزوّرة عمل أستاذا في معاهد التربية الرياضية، و انتُخب رئيسا للاتحاد المصري للعلاج الطبيعي، و كان أول عميد للمعهد العالي للعلاج الطبيعى في مصر منذ إنشائه عام ١٩٧٢ حتى قُبض عليه في ١٨ مارس (آذار) ١٩٧٩.

ارتبط العطفي من خلال عمله بشبكة علاقات قوية بكبار المسؤولين في مصر، و كان في مقدمة أصدقائه السيد كمال حسن علي أحد من تولوا رئاسة جهاز المخابرات العامة المصرية، ورئاسة الوزراء في مصر، والسيد عثمان أحمد عثمان صهر السادات و صاحب أكبر شركة مقاولات في مصر وقتها.
كان طريقه لتلك الصداقات صديق عمره الكابتن عبده صالح الوحش نجم النادي الأهلي في ذلك الحين، و المدير الفني للمنتخب الكروي المصري وقتها، الذي جعله المشرف على الفريق الطبي للنادي الأهلي، فتعددت علاقاته، حتى أصبح المدلك الخاص لرئيس الجمهورية بدءاً من عام ١٩٧٢.

كشفت التحقيقات التي أجريت مع العطيفي انه لم يحصل سوى على الشهادة الإعدادية فحسب و بعدها عمل كصبي بقال، ثم عامل و انه هو الذي سعى الى المخابرات الإسرائيلية بنفسه عن طريق سفارتهم في هولندا، وتبين لرجال الموساد أنه شخص ليس له عزيز و صديقه الوحيد في الدنيا هو المال، و ليس له أي انتماء لوطنه و لا يتقيد بأي مبدأ، وبالتالي تمت الموافقة على اعتماده كعميل مخلص لهم.

بعد الموافقة على تجنيده تم الاتصال به من القاهرة عن طريق أحد عملاء الموساد و طلب منه سرعة السفر إلى أمستردام، و بعد أربعة أيام كان هناك من دون أن يعرف لماذا طلبوه هناك، و ما هي المهمة المكلّف بها، ومن سوف يلتقي به و ظل يتجول في شوارعها وبين حدائقها، حتى وجد فتاة تصدم به وهو يسير في إحدى الحدائق، وكادت تقع على الأرض، ولما حاول مساعدتها وجدها تناديه باسمه وتطلب منه قراءة الورقة التي وضعتها في جيب معطفه من دون أن يشعر ثم اختفت الفتاة خلال ثوان بالكيفية نفسها التي ظهرت بها.
مد العطيفي يده لجيب معطفه وقرأ الورقة التي دستها الفتاة المجهولة، و كان فيها عنوان مطلوب منه أن يذهب إليه في اليوم نفسه بعد عده ساعات و عندما وصل الى بداية الشارع الذي فيه العنوان المذكور وجد سيارة سوداء تقف بجواره ويطلب منه سائقها أن يركب بسرعة، و بمجرد أن دلف داخل السيارة وانطلقت به فوجىء بالفتاة المجهولة التي أعطته الورقة بجواره.

توقفت السيارة بالعطيفيو بصحبته الفتاة المجهولة، أمام إحدى البنايات!! سار خلف الفتاة بين ردهات عدة حتى وصل الى حجرة ذات تجهيزات خاصة، كان فيها شخص ذو ملامح مصرية، وقف يستقبله قائلا: إيلي برغمانضابط “الموساد” المكلف بك، ولدت وعشت حتى بدايات شبابي في القاهرة، ثم هاجرت مع أسرتي الى إسرائيل ثم بدأ الاتفاق على تفاصيل العمل فأخبره برغمان بأنه سيخضع لدورات تدريبية مكثفة و اتفق معه أيضا على المقابل الذي سيأخذه نظير خدماته لـ”الموساد”، وعُرض على جهاز كشف الكذب قبل أن تبدأ تدريباته على أعمال التجسّس.

كان برنامج التدريب الذي خضع له العطيفي يركز على تأهيله ليكون نواة لشبكة جاسوسية تخترق الوسط الطبي و الأكاديمي في مصر، فدُرّب على استخدام أجهزة الإرسال و الاستقبال بالشفرة، وتصوير المستندات بكاميرات دقيقة، و استخدام الحبر السري كذلك تضمن التدريب تأهيله نفسيا ومعنويا للتعامل مع المجتمع بوضعه الجديد، حتى أصبح العطيفي مؤهلا تماما للقيام بالعمليات التجسسية لصالح الموساد الإسرائيلي داخل مصر.

لكن برغمان كان ينظر للعطيفي نظرة طموحة ويرى فيه فرصة ذهبية تستحق أن تُقتنص، فقرر أن يطرح ما يفكر فيه على رئيس الموساد، و في اجتماع موسع ضم رؤساء أفرع الموساد وكبار قادتها، فتح برغمان حقيبته وأخرج منها ملفات عدة سلم لكل شخص نسخة منها، وبدأ يطرح فكرته فقال: الدكتور العطيفي متخصص في العلاج الطبيعي، وهو أحدث التخصصات الطبية في مصر، وقلة عدد الأطباء و الأساتذة في هذا التخصص سوف تعطي له فرصة كبيرة للتميز في مجاله بقليل من المساعدات العلمية التي نقدمها له، حيث نستطيع أن نمده بأحدث الأدوية و الكريمات، وندعوه لمؤتمرات علمية دولية في هذا التخصص، و نقوم بتمويل حملة دعائية عنه في مصر وخارجها، لتتردد عليه الشخصيات المهمة ذات المراكز العالية في الدولة، ليصبح قريبا من معاقل صنع القرار، ثم نصل لتنفيذ الفكرة التي تدور في خاطري وهي أن الرئيس السادات يحرص على أن يكون بين أفراد طاقمه الطبي مدلّك خاص فلماذا لا نحاول لأن يكون العطيفي هو المدلّك الخاص للرئيس السادات؟
سيحتاج الأمر وقتا ليس بقصير ولمجهود كبير، لكننا سنخترق مؤسسة الرئاسة، و تكون حياة الرئيس المصري بين أيدينا!
استمع رئيس الموساد وقادته لفكرة برغمان، وطلب من الحضور التصويت على الفكرة برفضها أو الموافقة عليها، وعلى مدى ساعات عدة ناقش الحضور الفكرة بكل تفاصيلها، وفي نهاية الأمر نجح برغمان في الحصول على موافقة الغالبية على فكرته، وتقرر سفره إلى هولندا لبدء تجهيز العطيفي للمهمة الجديدة والتي أطلق عليها “المهمة المستحيلة“.

عاد العطيفي إلى مصر وتسلّم من مندوب “الموساد” أدوات عمله كجاسوس، من حبر سري و شفرة، و جهاز إرسال و استقبال، و كاميرا دقيقة، و لم يكن يعرف شيئا عما خطّطه برغمان له، وخلال المرات التي سافر فيها إلى هولندا كان يُدرّب في أرقى المستشفيات التي تقوم بالعلاج الطبيعي، حتى أصبح بالفعل خبير تدليك و توالت عليه الدعوات من جامعات عدة ليحاضر فيها في تخصّصه، و طاردته الصحف المصرية والأجنبية لإجراء حوارات معه، وكان ذلك كله جزءاً من السيناريو الذي أعده برغمان له ليكون مدلّك السادات.

في تلك الأثناء افتُتح في مصر أول معهد للعلاج الطبيعي، واختير العطيفي ليكون أول عميد له، و ذات يوم بينما هو في مكتبه بالمعهد فوجىء بمكتب رئيس ديوان رئيس الجمهورية يطلبه.
خرج العطفي من المقابلة و هو لا يصدق أنه أصبح أحد أطباء رئيس الجمهورية وخُصِّصت سيارة من رئاسة الجمهورية تأخذه كل يوم من بيته بحي الزمالك إلى حيث يوجد السادات في أي من قصور الرئاسة المتعددة.
امتد عمله أيضا الى جميع أفراد أسرة الرئيس، و أصبح مقربا جدا من السادات، فهو الرجل الذي يدخل عليه وهو شبه عار ويسلم نفسه له، و تدريجيا اتسع نفوذه وزادت صلاحياته، و وصل الأمر إلى أن قاعة كبار الزوار في مطار القاهرة كانت تفتح له، وبالتالي كان من المستحيل أن تفتَّش حقائبه!

خلال تلك الفترة لم يدخر العطيفي وسعا في إمداد الموساد بكل ما يتاح أمامه من معلومات، و شمل ذلك كل ما يدور في القصر الجمهوري من مقابلات وحوارات. اطمأن العطفي تماما إلى أنه من المستحيل كشف أمره، و بدأ يتخلى عن حرصه وبعدما كان يطوف جميع أحياء القاهرة، بل وغالبية مدن مصر بسيارته، ليلقي بخطاباته إلى “الموساد”، وبعدما كان في كل مرة يلقي برسالته في صندوق مختلف عن سابقه، أصبح يلقي بخطاباته تلك في أقرب صندوق بريد يقابله بجوار المعهد أو النادي.
كثرت سفرياته الى خارج مصر بحجج مختلفة، وبعدما كان يعمد لختم جوازه بتأشيرات مزورة لبلاد لم يزرها أصبح لا يهتم بذلك، بل يخرج من البلاد ويدخل و في حقيبة يده ما يدينه بالتجسس، و كان تخلّيه عن حرصه هذا هو سبب اكتشافه.
في آخر زيارة له الى أمستردام قبل القبض عليه وصلت به الجرأة أن يتوجه إلى مقر السفارة الإسرائيلية على قدميه أكثر من مرة، و هو الشخص الذي أصبح من الشخصيات العامة المعروفة، و في إحدى تلك الزيارات التقطته عيون المخابرات المصرية، و صوِّر بصحبة عدد من رجال الموساد المعروفين لضباط المخابرات المصرية، و أُرسلت الصور إلى القاهرة، و كانت أجهزة المخابرات المصرية على مدى أشهر عدة سابقة لتلك الواقعة في حيرة شديدة بسبب يقينها من وجود جاسوس مجهول في مكان حسّاس ولا تعرف من هو، وكان لدى المخابرات المصرية معلومات مؤكدة بأن هذا الجاسوس المجهول ينقل لإسرائيل أسراراً دقيقة عن شؤون رئاسة الجمهورية، وعن حياة الرئيس الخاصة، فخُصِّص ملف في المخابرات المصرية باسم “الجاسوس المجهول” تشير بياناته إلى أنه قريب جدا من دائرة صنع القرار السياسي، فهو يبلّغ إسرائيل أولا بأول كل تحرّكات الرئيس السادات.

تسلم الملف العميد محمد نسيم، الشهير بنسيم قلب الأسد، أحد أكفأ ضباط جهاز المخابرات المصريين على مدى تاريخه، وبدأ نسيم تحرياته المكثفة للكشف عن سر الجاسوس المجهول , كان العميد محمد نسيم هو المسؤول عن ملف العطيفي و لأيام عدة لم تر عيناه النوم الى أن اكتمل ذلك الملف وضم أدلة كثيرة على إدانته فعُرض على الرئيس السادات شخصيًا.

في البداية شكك السادات في صحة المعلومات التي قدمها له رئيس المخابرات المصرية، وسأله عن الضابط المسؤول عن ملف العطيفي فلما علم بأنه محمد نسيم صدّق كل كلمة لثقته الشديدة بالأخير.
ولشدة خصوصية الموضوع و مدى حساسيته، أمر السادات باطلاعه أولا بأول على كل ما يستجد في موضوع العطيفي وأمر بإعطاء ملفه صفة “شديد السرية”، وهي أعلى درجات التصنيف المخابراتي، ثم صدرت بعد ذلك أوامر عليا بإنهاء الملف والقبض على العطيفي.
صدرت الأوامر لضابط المخابرات المصري في هولندا، بإحكام الرقابة على العطيفي وضرورة ألا يشعر هو بذلك كي لا يلجأ إلى السفارة الإسرائيلية، أو تتدخل السلطات الهولندية وتمنع تسليمه لمصر.

عندما توجه العطيفي الى شركة الطيران ليحجز تذكرة رجوع الى مصر، تلقى ضابط المخابرات أمرا بأن يعود معه على الطائرة نفسها و يقبض عليه في المطار بمجرد نزوله من الطائرة، و في ٢٢ (مارس) ١٩٧٩ أقلعت الطائرة من مطار أمستردام و على متنها ضابط المخابرات الذي تأكد من وجود اسم العطيفيعلى قائمة الركاب في الرحلة ذاتها، وبعد هبوط الطائرة على أرض مطار القاهرة وقف تحت سلّمها ينتظر نزول العطفي، و كانت المفاجأة الصاعقة أن العطفي اختفى، أين ذهب؟
هل تبخر؟ تحرك الضابط والتقى زملاءه في مكتب المطار فأكدوا له أن العطيفي لم يخرج من الطائرة، فأبلغوا العميد محمد نسيم الذي تمكن بأساليبه الخاصة من معرفة أن
العطيفي في منزله وأنه عاد الى مصر على طائرة أخرى قبل موعد تلك الرحلة بيومين، و كان ذلك من الأساليب المضلّلة التي يتبعها العطفي في تنقلاته و كان لا بد من وضع خطة أخرى للقبض عليه.
في صباح اليوم التالي تلقى العطفي اتصالا من صحفي في مجلة “آخر ساعة” أخبره فيها بأنه يريد إجراء حوار مطوّل معه عن آخر المستجدات في مجال العلاج الطبيعي، وتحدد له موعد التاسعة مساء، وقبل انتهاء المكالمة توسّله الصحفي أن يحبس الكلب الوولف المخيف الذي يلاصقه في تحركاته كلها، فوعده العطفي بذلك وهو يضحك و لا يعلم أن ما تم كان بترتيب محكم من المخابرات المصرية.

في الثامنة والنصف من مساء ٢٣ (مارس) ١٩٧٩، كان حي الزمالك بالكامل محاطاً بسياج أمني على أعلى مستوى لكن من دون أن يشعر أحد، فهذا أحد أحياء القاهرة المعروف برقيّه و بأن عددا كبيرا من سفارات الدول الأجنبية موجود فيه، ويسكنه الكثير من رجال السلك الدبلوماسي الأجانب في القاهرة، ونظرا الى خطورة المهمة و حساسيتها كان من الضروري التحسب لأي شيء مهما كان، وأمام العمارة رقم ٤ في شارع بهجت علي في الزمالك بدا كل شيء هادئا، وعلى مقربة منها توقفت سيارات سوداء عدة تحمل أرقامًا خاصة، ونزل منها أناس يرتدون الملابس المدنية و لا يبدو عليهم شيء غريب.

كان العطفي ينتظر ضيفه الصحفي المتفق على حضوره في هذا الوقت وصل رجال المخابرات إلى باب شقته التي تشغل دورا كاملا بالعمارة المملوكة له ذاتها ويسكنها عدد من علية القوم، ففتحت الشغالة لهم باب الشقة لتصحبهم إلى الصالون لكنها فوجئت بالعميد محمد نسيم يقتحم غرفة المكتب ليواجه العطيفي الذي كان جالسا على مقعده الوثير ينتظر ضيفه الصحافي، وعلى رغم المفاجاة المشلة إلا أنه حاول أن يبدو متماسكا، فأعطى نسيم أوامره لرجاله بأن ينتشروا داخل المنزل.

أخرج نسيم أوامر النيابة بالقبض عليه وتفتيش منزله وأطلعه عليها، و ذلك لاتهامه بالتخابر مع دولة أجنبية فتصنّع العطفي الذهول والدهشة مما يسمع، و بداء يتحدث بنبرة تهديدية لنسيم يحذره فيها من مغبة ما يقوم به، لكن الرجل الذي يعي عمله جيدا واصل مهمته، و قطع ذلك حضور شريف ابن العطيفي الطالب بكلية الهندسة، الذي فوجئ بالمشهد المهين لوالده، ودار حوار بالألمانية بين شريف و والده، قال فيه الابن لأبيه أنه سيطلب جمال نجل السادات كي يخبر أونكل السادات بما يتم، وكان بين الحضور ضابط يجيد الألمانية فأخبر وكيل النيابة الموجود مع المجموعة، بحقيقة ما يريده الابن، فطلب ألا يتم ذلك منعًا لحدوث أي بلبلة تعوق المهمة.

تحدث العميد نسيم قائلا: “دكتور عطيفي… أنت متهم بالتخابر مع دولة أجنبية، ونحن جئنا لتنفيذ أمر بالقبض عليك”، فقال العطفي: “أنت عارف بتكلم مين؟”، ثم اتجه إلى الهاتف وأمسك بسماعته، لكن نسيم أخذها منه وقال له: “أولا، إجراءات المخابرات لا يستطيع أحد أن يوقفها ولا حتى رئيس الجمهورية، وثانيا، رئيس الجمهورية على علم تام بكل ما يحدث الآن بل ويتابعه بصفة شخصية، ويجلس الآن ينتظر خبر القبض عليك، ثم أخرج له صورة مع ضباط الموساد التي التقطت له أمام السفارة الإسرائيلية في هولندا فانهار العطفي و ألقى بجسده على أقرب مقعد.

قال العطفي: “أنا هقول على كل حاجة بس قبل ما أتكلم عايز أقولكم على حاجة مهمة، كنت ناوي أتوب تماما الأسبوع الجاي، وسافرت أمستردام الأسبوع اللي فات مخصوص عشان أبلغهم قراري، وكنت ناوي أحج السنة دي و ضابط المخابرات الإسرائيلي أبلغني أني أقدر آخد أسرتي وأسافر بهم إلى تل أبيب و أنا بقترح عليكم دلوقتي إن الأمور تمشي على طبيعتها، أسافر هناك … ومن هناك أقدر أخدم مصر.. وأكفر عن اللي فات، فقال له العميد نسيم مستدرجا إياه:
اقتراح جميل ومقنع تماما، اتعاون معانا بقى عشان نقدر ننفذ الكلام ده“.

ابتلع العطيفي هذا الطعم، وبدأ يقص حكايته من الألف إلى الياء، لكنه استخدم ذكاءه و أدخل كثيرا من الحكايات الكاذبة في قصته، و لاحظ رجال المخابرات ذلك، فتركوه يحكي ما يريد، ثم سألوه عن طريقة اتصاله بالمخابرات الإسرائيلية فقال بأن ذلك يتم عن طريق خطابات مشفرة على ورق كربون ويقوم بإرسالها من خلال البريد، و كانت تلك هي أول الأدلة المادية على تورّطه في التجسس.

أخرج العطيفي من بين أوراقه “بلوك نوت” عليه بادج المعهد العالي للعلاج الطبيعي، كانت صفحاته بيضاء، وبين أوراقه ورقة مكتوب عليها “بسم الله الرحمن الرحيم” فأشار إلى أنها ورقة الكربون التي يستخدمها كحبر سري،
ثم مد يده بين صفوف كتب مكتبته وسحب كتابا معينا وقال: هذا كتاب الشفرة، فنادى نسيم على واحد من رجاله وسلمه الكربون وكتاب الشفرة، وبإشارات خاصة ومن دون كلام تناولهما الضابط، وبعد لحظات أعطاهما لنسيم و هو يشير بإشارات خاصة ومن دون كلام أيضاً، لكن نسيم عرف أن العطيفي يراوغ، لأن الكتاب الذي أعطاه لهم ليس هو كتاب الشفرة، فما كان منه إلا أن حدّثه بلهجة حادة: أين كتاب الشفرة الحقيقي؟ فقام العطيفي لإحضاره من مكان آخر، عندها طلب نسيم تفتيش زوايا المنزل وأركانه كافة، ثم عاد العطيفي ومعه كتاب الشفرة الذي فُحص وتأكدوا من صحته.

كانت الزوجة انضمت الى الحضور وكذا الابن الثاني عمر، وأخبرهم رجال المخابرات بحقيقة رجل البيت الذي يتجسس لحساب إسرائيل فانهارت الزوجة ـ التي ثبت يقينا في ما بعد عدم علمها بالأمر ـ وأقبلت عليه تصرخ و هي توبّخه بألفاظ نارية، وكذا ابنه الكبير، بينما انخرط العطيفي في نوبة بكاء شديدة.

امتدت الجلسة حتى السابعة من صباح اليوم التالي، وأشار نسيم لاثنين من رجاله بمصاحبة الزوجة و ولديه لجمع حاجاتهم و مغادرة المكان، فلقد أصبح منذ تلك اللحظة خاضعا لسيطرة رجال المخابرات، وبدأ فريق الضبط يستعد لمغادرة المكان ومعهم صيدهم الثمين، إنه الدكتور علي العطيفي الطبيب الخاص لرئيس الجمهورية يخرج ذليلا منكسرا بين أيدي رجال المخابرات المصرية متّهمًا بأقبح تهمة.

كانت الساعة ٩ صباحًا حينما خرج نسيم بصحبة عدد من رجاله و بينهم العطيفي، في حين بقي بعض رجال المخابرات داخل الشقة و خارجها بينما كان هناك فريق آخر سبقهم إلى مقر المعهد العالي للعلاج الطبيعي،و صعد إلى حيث مكتبه.
بعد لحظات جاءت السيارة التي تقل العطيفي و توقفت داخلأسوار المعهد، و شاهد الطلاب والأساتذة عميدهم مقبوضا عليه، وفي مكتبه عثر رجال المخابرات على ضالتهم، إنه جهاز اللاسلكي المتطور الذي يستخدمه العطفي في بث رسائله، كان مخبأ في مكان سحري لا يستطيع أحد الوصول إليه سواه، ثم خرج الجميع بعد الأمر بتشميع مكتبه , منذ خروج فريق الضبط الى منزل العطيفي ورئيس جهاز المخابرات المصرية لم يغادر مكتبه، وكان يتابع لحظة بلحظة عملية الضبط والتفتيش، حتى دخل عليه نسيم قلب الأسد مؤديًا التحية العسكرية و يبشره بانتهائها على خير ما يرام و فورًا أمسك رئيس المخابرات بالهاتف وطلب الرئيس السادات الذي كان متلهفا هو الآخر الى سماع الخبر، لكن السادات طلب أن يسمعه من نسيم شخصيًا، وفيحضور الإثنين إلى استراحة الرئاسة في منطقة الهرم، وأمام السادات روى نسيم كل تفاصيل عملية الخيانة التي تورط فيها طبيبه الخاص، وعملية القبض وما تم ضبطه لديه من أدلة دامغة تثبت تجسسه، فأصدر السادات تعليماته بأن تتم العملية في طي الكتمان، وألا تنشر أجهزة الإعلام عنها أي شيء.
على مدار ٢٠ يوماً توالت اعترافات العطفي لأجهزة التحقيق، و سُوّدت أكثر من ١٠٠٠ ورقة باعترافاته. لكن خلال أيام التحقيق الأولى كان العطيفي مصممًا على أنه لم يعمل بالتخابر إلا منذ عام ، لكن تقرير المخابرات جاء ليؤكد أن العطفي كان على علاقة بـ”الموساد” منذ عام ١٩٧٢ وأنه كان يرسل برسائله اللاسلكية المشفرة منذ ذاك التاريخ، وتم التأكيد من ذلك بفحص جهاز الإرسال الذي ضُبط عند العطيفي، ومطابقة تردده مع الترددات المجهولة التي رصدتها أجهزة المخابرات منذ عام ١٩٧٢ وعجزت وقتها عن تحديد مصدرها، وكان من بين أحراز القضية جهاز دقيق يستخدم في عرض الميكروفيلم، وكارت بوستال ذو تصميم خاص فيه جيب سري للغاية يوضع به الميكروفيلم.

أثناء التحقيق معه أصدر المدعي العام الاشتراكي في مصر قرارا في ٣ (أبريل)١٩٧٩ بمنع العطفي و زوجته و أولاده من التصرف في ممتلكاتهم، فحُصرت وفُرضت الحراسة عليها، و بناء على هذا القرار أصدرت محكمة القيم حكما في ١ (مارس) ١٩٨١ بمصادرة أموال و ممتلكات العطفي وأسرته لصالح الشعب، وكانت ثروته أثناء القبض عليه تقدر بمليونين ومائتي ألف جنيه.

أما العطفي فأحيل الى محكمة أمن الدولة العليا في القضية رقم ٤ لسنة ١٩٧٩، حيث أصدرت حكمها عليه بالإعدام شنقًا، لكن الرئيس السادات خفف الحكم إلى الأشغال الشاقة لمدة ١٥ سنة فحسب، و رفض الإفراج عنه أو مبادلته على رغم الضغوط السياسية التي تعرض لها وقتها من رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن الذي تعددت لقاءاته بالسادات خلال تلك الفترة، وهما يعدّان لاتفاقيات السلام بين مصر وإسرائيل.

بعد صدور الحكم على العطيفي، قام الابن الأكبر له بنشر إعلان مدفوع الأجر على مساحة كبيرة من صحف عدة يعلن فيه لشعب مصر أنه يتبرأ من والده ويستنكر خيانته لمصر.
بعد وفاة السادات و تولي الرئيس مبارك الحكم، تقدم العطفي بالتماسات عدة له بطلب الإفراج عنه لظروف صحية لكن مبارك رفض الموافقة على تلك الطلبات التي كان آخرها عام ١٩٨٧، وقيل إنه أصيب بالعمى وهو في سجنه الذي بقي فيه ذليلا مهانا حتى وفاته في 1 (ابريل) عام ١٩٩٠ و رفضت أسرته استلام جثته فدُفنت في مقابر الصدقة.

Report

اخبرنا برأيك ؟

199 نقاط
Upvote

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *